نشيد الأغبياء | شعر

 

كلّ شيءٍ نحو الهاوية

أنت، هذا الفم المؤدّي نحو الجحيم

هاتان العينان الذاهبتان نحو الخراب

وذلك الرأس الأجرد، رأس الفتنة

كلّ شيءٍ مصابٌ بالملل

الأصدقاء... صفحاتهم الباردة كما السماء

تلك البقرة الجالسة أمام المدفأة على أريكةٍ من الفرو،

ملابسنا الداخليّة كالبيانات السياسيّة مصابةٌ بالعطب

لا شيءَ

خارجٌ عن المألوف،

لا شيءَ شاذٌّ في حياتنا المملّة

حتّى أنت أصبحت كأيّ بحيرةٍ أصابها الجفاف

لا شيء لا شيء

خارجٌ عن المألوف

سوى أنت

 

 

العالم يترنّح، كذبابةٍ ثملة

لا شيءَ يعكّر مزاجي اليوم

مرّت الدقائق الأخيرة من العام الماضي

وأنا أجلس أشرب الشاي

وألعب الورق مع أشخاصٍ لا أعرفهم

كان جوّ المقهى باردًا قليلًا

كنت ألبس ملابسَ خفيفةً

البرد حفر قناةً في عظامي وقدماي ترتجفان

والكلّ ينتظر منّي أن أتركهم وأذهب للسهر مع آخرين

لكن مرّت الدقائق الأخيرة من العام الماضي، وأنا ألعب

الورق وأشرب الشاي

ولا شيءَ آخر في ذهني،

وكان العالم ذبابةً في كأسٍ فارغة

 

 

وجه المدينة
تبدو المدينة

كقبر سجينٍ بريءٍ، المباني تحجب رؤية النجوم

والأسفلت يطير مع الهواء كشرائطَ ملوّنةٍ من

الأحلام والذكريات

الصباح كأيدٍ مغلولةٍ

المدينة تسلب الجميع حرّيّته

أمرّ عبر شوارعها

أشعر كأنّ النجوم تتساقط

مِنْ رأسي

ولا أحدَ في الشارع

 

 

يدي اليتيمة

يدي الّتي عاثت الخراب

يدي الّتي علّمتني إتقان فنون الرذيلة

يدي الّتي كانت تضمّك وتلعب بصدرك كأيّ مجنون

يدي الّتي عبثت بالكون

اليوم أضعها كأيّ تحفةٍ فنّيّةٍ قديمةٍ

على الطاولة

 

 

في رأسي حيوانٌ ما

يركض، يتمدّد، يتقلّص

ويهرب من واجباته العضويّة

في رأسي حيوانٌ مريضٌ

لا يحبّني، ويحبّ الجبنة البيضاء

ووجع المعدة،

في رأسي كلّ الأشياء السيّئة،

يدي الميّتة، حلمي الّذي أراه

وصورتكِ الوحيدة ميّتةٌ عاريةٌ

في حديقة الجيران

 

 

موت الرجال

في الربيع يا حبيبتي

كانت تقشّر النساء في بلادنا

لحاء أشجار اللوز

وعلى نارٍ هادئةٍ

كانت النساء تختار مولودها ذكرًا

حسب تقويم وأساطير جدّاتنا القديمة

ومنذ مئة عامٍ يا حبيبتي

منذ أن ماتت النساء في بلادنا

شاخ لحاء الشجر

 

 

نشيد الأغبياء

مَنْ هذا الغبيّ الّذي قال:

إنّ الأبقار لا تحبّ الموسيقى

وكلّ يومٍ أراها من شرفة بيتي

تصطفّ في الطابور العسكريّ مترنّحةً طربًا

على النشيد الوطنيّ
*

مَنْ هذا الغبيّ الّذي قال:

إنّ الكلاب لا تحبّ الدماء

وكلّ يومٍ صباحًا أراها من الشرفة

تلاحق بنات الجيران في طريقهنّ إلى المدرسة

 

 

سأحلم بكلّ طمأنينة

أغادر بيتي في العاشرة صباحًا على غير عادتي

جارتي المسنّة تشتم عامل النظافة

وأسمع زقزقة العصافير

أمشي في شارع المدينة اليتيمة

أرى قططًا ضالّةً تطير

أرمي لها بإحدى يديّ

ألتقي بصديقٍ قديمٍ لكن لا أحبّه

أبتسم ابتسامةً خجولةً

أستمرّ في السير

أدخل مقهى رام الله

أجلس أنتظر

حتّى يفرغ العامل من مكالمة طويلةٍ حول تربية الدجاج

أشرب قهوتي وأدخّن أرجيلتي

أغادر، وفي طريق العودة للبيت، الجوّ حارٌّ وخانق

سيارة نوع «تويوتا» موديل 2005 يسوقها شابٌّ غير وسيم

يسوقها بسرعةٍ فائقةٍ لا ينظر حوله

أقطع الشارع دون انتباه

تمرّ السيّارة فوق جثّتي

أرى السائق يبتسم

أسامحه

لأنّه ثملٌ وسعيد

لا شيء

 


أمام كلّ هذا الموت

لا شيءَ نفعله

سوى أن نحزن ونمضي قدمًا

لا شيء

سنفكّر بهم كلّ يوم

تبًّا كلّ يوم

أمام كلّ ما حدث

لا أحد بريء

لن يتبقّى أحدٌ منهم حيًّا

ليدمل الحفرة علينا

لا أحد سيمشي في جنازتنا

تبًّا

أمام كلّ ما حدث

لا شيء نفعله سوى الحزن

 

 

أعوي في المدينة

بين تلك الهندسة المظلمة

وصياح الباعة المتجوّلين

أجرّ ذيلي المقطوع

بنصف نومٍ ونصف ثمالة

أعوي في الخراب

فمي مملوءٌ بالتراب

أعوي ولا أحدَ يربّت على جرحي

فقد مات أصدقائي، وهربتْ حبيبتي مع جاري الكفيف

وككلبٍ مشرّدٍ، أعوي في المدينة

 

 

الليل مريضٌ بالحنين

ما زال رأسي ثقيلٌ من ليلة أمس

أمشي في شوارع المدينة

أغمض عينيّ، أتلمّس طريقي للبيت

أحاول أن أستدلّ على أسماء الأشياء

أفشل كلّ مرّةٍ وأضرب رأسي مرّةً بالحائط ومرّةً أخرى

بالسرير

أشعر بالبرد والوحدة

مَنْ لفّ تلك الأفاعي حول رقبتي؟

مَنْ وضع البئر في فمي؟

مَنْ جرّدني من الحنين

هذا المساء

حتّى أبكي كلّ هذه السنين

دفعةً واحدة؟

 


 

مهيب البرغوثي

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ يقيم في رام الله، صدرت له دواوين شعريّة عدّة. يحرّر الملحق الثقافيّ لـ «صحيفة الحياة الجديدة» الفلسطينيّة.